لماذا تفشل التسويات في السودان غالبًا؟
عن مداواة الجرح دون تفكيك السكين
د. ناهد محمد الحسن
كلما اشتد القتل، وارتفع عدد النازحين، وضاقت الحياة على الناس، يخرج صوت مألوف يقول: “دعونا نتفق… أي اتفاق… المهم أن تتوقف الحرب”. هذا الصوت ليس جبانًا. ولا فاسدًا بالضرورة. غالبًا هو صوت تعبٍ إنساني حقيقي. لكن في السودان، كلما هللنا لتسوية، عدنا بعد سنوات — أو أشهر — إلى نقطة أبعد من البداية. لماذا؟ لأننا نُوقِف النار… ولا نُطفئ أسبابها. أغلب التسويات التي عرفناها نجحت في شيء واحد فقط وهو إسكات البنادق مؤقتًا. لكنها فشلت في ما هو أخطر. كتفكيك المنطق الذي جعل السلاح طريقًا للسلطة. نوقف القتال، لكننا نُبقي على شبكات المصالح عينها، وعلى مراكز القرار التي ثرنا عليها، وعلى ذات العقلية التي ترى الدولة غنيمة، ونحتفظ بالخوف المتبادل. فنصنع سلامًا هشًا، يقف على ساق واحدة، وينتظر أول صدمة ليسقط. لأننا نخلط بين “الاستقرار” و”العدالة”. وربما لأننا ملولين بعض الشيء، ولدينا مشكلة مع الثبات والديمومة بفطرتنا القلقة.
كثير من التسويات تقوم على فكرة بسيطة ومغرية: لنؤجل الأسئلة الصعبة، ونرتّب الواقع كما هو، ثم نُصلح لاحقًا. لكن الواقع لا ينتظر. وهنا تحضرني تجربة إسبانيا تحديدا، في الفترة من وفاة فرانكو 1975 حتى إقرار الدستور 1978 (وما تلاها في الثمانينيات). لماذا إسبانيا تحديدًا؟ لأنها تُعدّ في الأدبيات السياسية مثالًا كلاسيكيًا على ما يُسمّى انتقالًا تفاوضيًا حافظ على الاستقرار لكنه أجّل العدالة.
ماذا حدث باختصار شديد، خرجت إسبانيا من ديكتاتورية فاشية طويلة (فرانكو 1939–1975). كان الخوف كبيرًا من: عودة الحرب الأهلية، تدخل الجيش، وانهيار الدولة. فاختارت النخب السياسية مسارًا سمي لاحقًا: “ميثاق النسيان” (Pacto del Olvido). وكان جوهر التسوية: عفو واسع عن جرائم النظام السابق، إدماج نخب قديمة في النظام الجديد، بناء مؤسسات ديمقراطية من دون تفكيك عميق للبنية القديمة. والنتيجة كانت نجاح الديمقراطية شكليًا، استقر النظام السياسي، تأخرت العدالة الانتقالية لعقود. بينما عادت الأسئلة المؤجلة لاحقًا في شكل غضب شبابي، استقطاب سياسي، أزمات ثقة في الديمقراطية نفسها. اختارت النخب السياسية — خوفًا من عودة العنف أو تدخل الجيش — أن تعبر إلى الديمقراطية عبر توافق واسع مع بقايا النظام القديم. نجح الانتقال شكليًا، بكتابة دستور جديد، انتخابات، مؤسسات مدنية. لكن مقابل ذلك، تمّ الصمت طويلًا عن: جرائم الماضي، وعن شبكات النفوذ القديمة. مما أدى إلى اختلالات عميقة في توزيع السلطة والموارد. صحيح ظاهريا استقر البلد، لكن العدالة تأخرت عقودًا. وحين عادت الأسئلة المؤجلة، عادت في صورة لا تثق “بالديمقراطية نفسها”.
هذا المثال يعلّمنا درسًا دقيقًا: أن التسوية قد تمنع الانفجار الفوري، لكنها إن لم تُصاحبها عملية تفكيك عميقة، فإنها تحوّل الماضي إلى قنبلة مؤجلة. وفي بلد مثل السودان، حيث لم تُبْنَ الدولة أصلًا على أسس عادلة، تصبح التسوية التي تتجاوز الجذور أقرب إلى إعادة ترتيب الأنقاض… لا إعادة البناء. لأن التسويات غالبًا تُصمَّم من فوق… لا من الحياة اليومية. كثير من الاتفاقات تُكتب: في عواصم بعيدة، بلغة أنيقة، وبجداول زمنية جميلة. لكنها لا تُختبر بالسؤال الأهم: كيف سيعيش الناس غدًا؟
هل سيشعر النازح بالأمان؟
هل ستعود المدرسة؟
هل سيتوقف الابتزاز المسلح؟
هل ستُفكك اقتصاديات الحرب؟
حين لا تمسّ التسوية هذه التفاصيل، تصبح وثيقة سياسية… لا عقدًا اجتماعيًا.
متى تنجح التسويات؟ (نادرًا… لكنها قد تنجح):
التاريخ يقول شيئًا غير رومانسي: التسويات تنجح حين تتغير الشروط، لا حين تتغير النوايا فقط.
تنجح التسويات حين: يُنهك العنف ولا يعود مربحًا. وحين تتشكل قوة مدنية قادرة على الحماية لا الخطابة. ومتى ما أصبح الاستمرار في الحرب أثقل كلفة من التراجع. وعندما يشعر الفاعلون أن هناك مستقبلًا خارج السلاح.
أما حين تُفرض التسوية: خوفًا من الانهيار فقط. أو بسبب ضغطً خارجيً مع بنية داخلية فاسدة. أو باسم “الواقعية” دون مساءلة. فهي غالبًا تُرحّل الانفجار… ولا تمنعه.
وماذا عن “الحلول الجذرية”؟
الحلول الجذرية ليست دائمًا شجاعة، وليست دائمًا انتحارًا. هي خطيرة حين تُطرح بلا ميزان قوة. أو تتحول إلى شعار أخلاقي معزول. أو تُقصي الناس باسم النقاء. لكنها ضرورية حين تكون التسوية مجرد إعادة تدوير للظلم. أو غطاء لعودة بنية فشلت مرارًا، أو مساومة على معنى الثورة نفسه. الخطر ليس في الجذرية، ولا في التسوية، بل في اختيار أداة لا تناسب اللحظة.
الرغبة في إنهاء الحرب نبيلة. لكن إنهاء الحرب دون تفكيك أسبابها، يشبه تضميد جرح مفتوح بقطعة قماش جميلة. سيبدو أفضل للحظة، ثم يعود النزيف.
