
يُطرح سؤال جوهري في أذهان الكثيرين، خاصة الأزواج، حول مدى احتمالية انتقال الأمراض التي يعانون منها إلى أطفالهم. الإجابة على هذا السؤال تختلف بناءً على نوع المرض، حيث تُميز العلوم الطبية بين الأمراض الوراثية البحتة وتلك التي تُعرف بالأمراض متعددة العوامل ذات المكون الوراثي.
خطر الإصابة: الوراثة أم البيئة؟
تُقسم الأمراض من حيث انتقالها إلى الأجيال التالية إلى نوعين رئيسيين:
الأمراض الوراثية:
هذه الأمراض تنتج بشكل مباشر عن تغير أو طفرة في جين واحد أو كروموسوم كامل. يوجد حوالي 7000 مرض وراثي معروف، ويمكن فحص أكثر من 1000 منها – عادة قبل الولادة أو بعدها مباشرة – لتشخيص حالات مثل التثلث الصبغي 21 (متلازمة داون). هذه الأمراض يكون فيها الانتقال الوراثي هو العامل الحاسم والوحيد لظهور المرض.
الأمراض متعددة العوامل ذات المكون الوراثي:
تُعد هذه الأمراض أكثر تعقيدًا، حيث تحدث نتيجة تفاعل بين العديد من المتغيرات الجينية من جهة، والعوامل البيئية من جهة أخرى (مثل التدخين، التلوث، نمط الحياة، التوتر، إلخ). في هذه الحالة، لا يمكن للوراثة وحدها أن تحدد ما إذا كان المرض سيظهر خلال حياة الفرد أم لا. لهذا السبب، تُعرف الاختبارات التي تُجرى للكشف عن هذه الأمراض باسم اختبارات “الاستعداد”، فهي تُحسب خطر الإصابة بالمرض وليس تأكيده. هذه الاختبارات متوفرة لبعض أنواع السرطانات، الأمراض العصبية، وأمراض القلب والأوعية الدموية.
أمثلة على الأمراض التي تنتقل بالوراثة:
الاعتلالات العضلية: مجموعة واسعة من الأمراض العصبية والعضلية التي تؤدي بشكل عام إلى ضعف عام في العضلات. من أشهرها ضمور دوشين العضلي الذي يصيب حوالي 1 من كل 3300 من الذكور حديثي الولادة. تختلف الأعراض وشدتها حسب نوع الاعتلال.
الهيموفيليا (الناعور): مرض وراثي مرتبط بالكروموسوم X، يصيب بشكل رئيسي الأولاد (حوالي 1 من كل 5000). ينتج عن غياب أو نقص أحد عوامل التخثر، مما يسبب نزيفاً تلقائياً أو بعد صدمات بسيطة، وقد يؤدي إلى نزيف في المفاصل يُسبب الألم وتلفها.
التثلث الصبغي 21 (متلازمة داون): مرض كروموسومي ناتج عن خلل في الكروموسومات. تشمل عواقبه الشائعة إعاقة ذهنية متفاوتة، مظهر وجهي مميز، انخفاض في توتر العضلات، وتشوهات متفاوتة الشدة قد تصيب القلب أو الجهاز الهضمي.
الورم الليفي العصبي من النوع 1 (NF1): النوع الأكثر شيوعًا من الأورام الليفية العصبية، يصيب حوالي 1 من كل 4000 شخص. تختلف مظاهره السريرية بشكل كبير حتى داخل العائلة الواحدة، وتشمل بقعًا داكنة على الجلد (بقع الكافيه أو لايت) وأورامًا حميدة على طول الأعصاب أو الجلد. نسبة صغيرة من المرضى قد يعانون من مضاعفات خطيرة مثل الأورام الخبيثة.
التليف الكيسي: المرض الوراثي الأكثر شيوعًا بين السكان الغربيين (حوالي 1 من كل 4000 مولود جديد). في فرنسا، ساعد الفحص الشامل لحديثي الولادة منذ عام 2002 في تشخيص أكثر من 95% من الحالات. يؤثر المرض على الجهاز التنفسي والهضمي، وتُعد الأعراض الرئيسية هي احتقان القصبات الهوائية، التهابات الجهاز التنفسي المتكررة، مشاكل في الجهاز الهضمي، وعقم الذكور، نتيجة لزوجة المخاط الزائدة في الجسم.
هل الاكتئاب وراثي؟
بالنسبة للاكتئاب، تُشير الدراسات الحديثة إلى وجود مكون وراثي، ولكنه ليس المحدد الوحيد للمرض. وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة Cell في فبراير 2025، شملت ما يقارب 5 ملايين شخص، تم تحديد حوالي 300 متغير جيني مرتبط بالاكتئاب. هذا العمل يؤكد على الانتقال الجيني للاكتئاب.
يشير معهد إنسيرم (INSERM) إلى أن احتمال إصابة الشخص باضطراب اكتئابي خلال حياته يزيد مرتين إلى أربع مرات إذا كان أحد والديه مصابًا به، ويُشير بشكل خاص إلى الجينات التي ترمز لناقل السيروتونين، وهو ناقل عصبي يُشارك في التحكم في المزاج.
ومع ذلك، يظل المكون الوراثي في الاكتئاب محدودًا، حيث يُصنف المرض ضمن الأمراض متعددة العوامل. فالشخص الذي يحمل العديد من هذه الاختلافات الجينية لن يُصاب بالضرورة بالاكتئاب. تلعب عوامل أخرى مثل الطفولة المبكرة، نمط الحياة، والتوتر، دورًا حاسمًا في تحفيز ظهور المرض.
الخلاصة:
بشكل عام، بينما تُحدد الوراثة بشكل قاطع ظهور بعض الأمراض، فإن الكثير من الأمراض الأخرى تتطلب تفاعلًا معقدًا بين الاستعداد الجيني والعوامل البيئية لكي تظهر. لذلك، يُنصح دائمًا بالاستشارة الوراثية في حال وجود تاريخ عائلي لأمراض معينة لتقييم المخاطر وتقديم المشورة المناسبة.