
الخرطوم: محاسن أحمد عبد الله
لم نتعاف حتى الآن من الحزن الذي تلبسنا إزارا ورداء ولم يندمل جرحنا برحيل وفراق الشاعر الفذ محمد الحسن سالم حميد وشاعر الشعب محجوب شريف، لينطبق الجرح ويخيم الحزن علينا وتمتلئ المآقي بدموع الفراق المر بعد أن أسدل الموت ستارة لنهاية فصل من فصول الحياة الفانية، معلنا رحيلا موجعا لفارس الكلمة الشاعر الوطني محمد طه القدال عن صهوة جواد الحياة الى عوالم البرزخ في رحلة أبدية.
(١)
رحل القدال وجسده مثقل بالجراحات والاوجاع في سبيل حب الوطن ورغم ذلك لم يترك المرض جسده المنهك ليداهمه ويطيب له فيه المقام الا أنه لم يستسلم له ظل يصراعه ولم تفارق الابتسامة وجهه حيث ظل صامدا وقويا كما مواقفه الناصعة والمشرفة.
رحل القدال ابن (حليوة) تلك القرية التي إحتضنتها ولاية الجزيرة وإنجبت الشاعر الفذ القدال الذي أنجبته الحاجة حرم من والده الحاج طه دفع الله القدال وتشرب الشعر من تلك البيئة والاسرة التي يجري في عروقها بالفطرة مجري الدم
(٢)
*يوم تقع ياعابرة نخلة ينقطع تو من صبرنا
يوم تقع يا عابرة نخلة بنحمل أحزان ماقدرنا*
ذهب القدال الى القاهرة وكان في وداعه بمطار الخرطوم عدد من الاصدقاء والمقربين والمعجبين بدا وقتها في كامل أناقته رغم ظهور علامات المرض في وجهه الوضيء وهو يتسربل زيه الذي يحب (عمة وجلباب وسديري). وصل القاهرة وقابل عددا من الاطباء إلا انه لم يتعاف ليقرر السفر الى الدوحة والمكوث بمستشفى الأمل إلا ان وضعه الصحي لم يتحسن بعد أن تملكه المرض ليسلم الروح لبارئها بالامس بهدوء تام لم يصاحبه ضجيج أشعاره الهادر مخلفا وراءه حالة من الحزن الكبير.
(3)
يا..صاحبي الصدق باب الله
والعند الله حاجة قريبة
أقرب من مسافة طرفة
لو بقت البصيرة خصيبة
يعتبر الشاعر الراحل محمد طه القدال من أكثر الشعراء الذين أثروا الساحة بأشعار النضال والوطنية والثورية ومناهضة المستعمر الجديدـ جسد في أشعاره المغناة معاناة الشعب وسكب ذلك الاحساس في قصائده بصدق فهو من خرج من رحم تلك المعاناة لتصدح بأغنياته حناجر فنانين قابضين على جمر القضية كما رددت أشعاره مجموعة عقد الجلاد التي شكلت وجدان الشعب السوداني باشعاره واشعار الراحل محجوب شريف وعبدالوهاب هلاوي وقاسم أبوزيد …الخ
ثورية ووطنية القدال واختياره درب النضال الصعب لسنوات طويلة دفع فيه ضريبة من صحته وعمره وراحته وأسرته ،حيث كان ضيفا دائما للمعتقلات التي زج فيها بسبب مواقفه المشرفة وأشعاره التي زلزلت عرش طغاة الحكم من المستبدين والظالمين منذ الثمانينات .
لم يتزحزح عن مواقفه قيد أنملة ظل ممسكا بجمر القضية حتى زال حكم الإنقاذ الغاشم الذي ظل يناهضه حتى زال وكانت الثورة العظيمة التي اقتلعت البشير وزبانيته كان الحكم وقتها احتفل القدال وكان يتقدم الثوار في القيادة كما تقدمهم في المواكب.
القدال لم يدر بخلد الكثيرين لنعيه سوى ابيات ازهري محمد على التي نعى فيها حميد وقال:
ﻛﻴﻒ ﺃﻣﺴﻴﺖ ﻫﻨﺎﻙ ﻳﺎ ﺻﺤﺒﻲ
ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺮﺯﺥ ﻟﻌﻠﻚ ﻃﻴﺒة ؟
ﻣﺒﺴﻮﻁ ﻭﺍﻷﻣﻮﺭ ﻣﺴﺘﻮﺭة
والنفس ﺍﻟﺮﺿﻴة ﺭﻃﻴﺒة ..
و أﺧﻮﺍﻥ ﺍﻟﺼﺪﻕ ﺗﻠﻘﺎﻫﻢ
ﺿﺎﺭﺑﻴﻦ ﺍﻟﻬﻮا ﺍﻟﺘﺮﻃﻴﺒة ..
ﺃﺟﻤﻞ ﻣﻦ ﻃﻴﻮﺭ ﺍﻟﺠﻨة
ﻓﻲ ﺍﻟﺮﻭﺿة ﺍﻟﺒﻔﻮﺡ ﻃﻴﺒة ..
ﻳﺎ .. ﺻﺎﺣﺒﻲ ﺍﻟﺼﺪﻕ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻠﻪ
ﻭﺍﻟﻌﻨﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﺣﺎﺟﺔ ﻗﺮﻳﺒة ..
ﺃﻗﺮﺏ ﻣﻦ ﻣﺴﺎﻓﺔ ﻃﺮﻓة
ﻟﻮ ﺑﻘﺖ ﺍﻟﺒﺼﻴﺮة ﺧﺼﻴﺒة ..
ﻭﻳﻦ قايل ﻭﺭﺍﻙ ﺻﺪﻗﻨﺎ
ﻏﻴﺮ ﺻﺪﻗﺎ ﺗﺨﺎﻟﻄﻮ ﺍﻟﺮﻳﺒة ..
ﻧﺤﻨﺎ ﺍﻟﻤﻦ ﺩﻭﺍﻋﻲ ﺍﻟﻐﻔﻠة
ﺳﻤﻴﻨﺎ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﺼﻴﺒة !
ﻛﻠﻨﺎ ﻓﻲ ﻛﻤﻴﻦ ﺍﻟﻜﺘﻤة
ﻭﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﻌﻠﻲ ﺍﻟﺘﺸﻄﻴﺒة ..
ﻓﺎﺯﻋﻴﻦ ﻓﻲ ﻏﻨﺎﻙ
ﻣﺎ ﻃﻠﻨﺎ ﻣﻦ ﺷﺠﺮ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﺣﻄﻴﺒة ..
ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻧﺎﺭ ﺑﺎﻟﻤﺮة
ﻣﺎ ﺩﺧﻠﺖ ﻏﻨﺎﻧﺎ حقيبة !
ﻳﻨﻔﻚ ﺍﻟﻬﻮا ﻭﻳﻨﺼﺮﻩ
ﺑﻴﻦ ﺷﻬﻘﻪ ﺩﻟﻴﺐ ﻭﺣﻘﻴﺒة ..
ﻭﺇنت ﺍﻟﻔﻲ ﺍﻟﻤﺠﺎﻟﺲ ﻏﺮة
ﻓﻲ ﺭأﺱ ﺍﻟﻘﺼﺎﻳﺪ ﺷﻴﺒة ..
ﻋﻠﻴﺖ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﻣﺒﺎﻧﻲ
ﻟﻮ ﺗﻘﺒﻞ ﺗﺸﻴﻠﻨﺎ ﻗﻠﻴﺒة …
ﺻﻠﺼﺎﻝ ﺍﻟﺨﻠﻴﻘﻪ ﺍﻷﻭﻟى
ﺃﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﻋﺠﻴﺒة ..
ﻧﻨﻬﻞ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺽ ﺍﻟﻔﻜﺮة
ﻭﻧﻤﻼﻫﺎ ﺍﻟﻘﺮﺏ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺒة ..
ﻭﻳﻦ ﺳﺮ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﺧﺘﻴﺘﻮ ؟؟
في الفجة الورا القسيبة
ﻭﻻ ﺣﻘﺒﺘﻮ ﻭﺇﺗﻮﻛﻠﺘﻪ …….
ﺷﺎﻥ ﺯﺍتا ﺍﻟﻜﺘﺎﺑة نسيبا !!
(٥)
صلصال الخليقة الاولى
اسرار المعاني عجيبى
ننهل من حياض الفكرة
ونملاها القرب في السيبى
كان القدال اجتماعيا من الطراز الاول مشاركا في كل المحافل الثقافية والفنية والأدبية وكان من أوائل المنضمين لبيت العود في السودان الذي كان بقيادة الفنان نصير شمة ورعت فعاليته منتدى دال الثقافي.
ويشهد له بمواقفه الإنسانية وإحتفائه بكل مبدع وتقديم الدعم والمساعدة للجميع بلا مقابل.
يا أبو السرة كج العين
تخبر الشينة من الزين
تفرز الطاري من الساري
ومدو صباعك السبابي
قامت بنعي الراحل كثير من المجموعات والفنانين والشعراء والموسيقيين ورجال السياسة والعمل الطوعي والإنساني حيث كان القدال مؤسسا وراعيا لجمعية المسنين في السودان لذا قامت بنعيه الجمعية السودانية لرعاية المسنين (جسر) وقالت أنه كان أحد أبرز مؤسسي الجمعية وصاحب المبادرة بفكرة تأسيسها في بداية التسعينيات، حتي برزت للوجود في عام ١٩٩٤م، وحينها كان مديرا لمنظمة رعاية المسنين البريطانية، وعمل كعضو لمجلس أمناء الجمعية منذ تأسيسها حتى وفاته.
(٦)
حُزناً جاني في مَيْع الصِّبا يلَجِّني
أطلعْ مِنِّي يا جلدي المِنمِّل جِنيِّ
واطلعْ مِنِّي يا حُزناً بِقى مكَجِّني
كذلك نعاه د.عمر محمود خالد صاحب مبادرة (صحة وعافية) بقوله رحل الوطن المسمى محمد طه القدالـ بعد حياة مسيرتها نضال كلمة ونضال مسؤوليةـ وقيمة حقيقية لمعنى العمل الوطنـي لقد كان مشاركاً وطنياً في كل المبادرات الداعمة للعمل الوطني في كل أشكاله.
وكان معنا بقيمته العملية في مبادرتنا هذي جزء أصيلا منها وفاعلا.
(٧)
شليل ما راح…شليل ما فات
شليلي عند المسور حرق بقالو حصاد
شليل فوق التقانت قام خضار وبلاد..
على المستوى السياسي قامت بنعيه قيادة الجبهة الوطنية العريضة ببيان أشارت فيه للراحل بانه كان شاعر فذا ومناضلا كبيرا وفارسا مغوارا صاحب مبادئ وقيم بمواقفه الشجاعة المشهودة من أجل المواطن والوطن وأنه كان وطنيا مخلصا وقائدا فذاـ ظل وفيا للقضية وهو يدعم العمل الوطنى غير وجل ولا هياب ولو كان ذلك على حساب ذاته وأسرته.
اختتم البيان:(إننا باسمنا ونيابة عن الجبهة الوطنية العريضة !قيادة وقاعدة داخل السودان وفي كل دول المهجر نعزي أنفسنا ونعزي أسرته العظيمة المعطاءة ونعزي جميع أصدقائه وزملائهـ فهو أخ لكل السودانيين الشرفاء الأطهارـ ولئن فارقنا جسده فسوف يظل بمواقفه في قلوبنا حاضرا انتصارنا الحاسم ضد الطاغوت الإنقاذي يشاركنا(
(٨)
يا رحمة نداوة الصفقة في النسمة الصعيدية
ويا جهرة نهار الليلة .. لما الليلة بدرية
رحيح جنياتنا في الحدبة الصعيد الحلة
من حزب الأمة نعاه السيد مبارك المهدي رئيس حزب الأمة واعضاء المكتب السياسي بأن الفقيد قدم طوال حياته الحافلة بالابداع للسودان وأرضه وشعبه العديد من النصوص الشعرية للمكتبة السودانية مستمدة من بيئته الثقافية واللغوية، تغنى بها عدد من الفنانين، وبدأ القدال مسيرته الشعرية في نهاية ستينيات القرن الماضي، لكن نجمه سطع بقوة في بداية الثمانينات حيث برز كشاعر ثوري وجد شعره صدى كبيرا في الشارع السوداني في ذلك الوقت وكان !أحد الملهمين لانتفاضة أبريل 1985 التي اطاحت بالرئيس الاسبق جعفر النميري، كما كان أيضا أحد الملهمين لثورة ديسمبر التي اطاحت نظام الانقاذ.
كذلك نعته شبكة الصحفيين السودانيين في بيانـ كشف كيف للراحل علاقات ممتدة في كل المجتمعات ومع كل القلوب.