أبرز المواضيعأخر الأخبار

شيكان في الواح التاريخ السوداني .. د. الصادق الامام الهادي المهدي*

شيكان في الواح التاريخ السوداني
بقلم د. الصادق الامام الهادي المهدي

في الخامس من نوفمبر من العام ١٨٨٣م وقعت معركة شيكان في سهول كردفان الغرة. وقد مهدت لشيكان معارك في جنوب كردفان حيث انتصر جيش أنصار الله ورسوله على حملات عسكرية عديدة كان الامام المهدي في حالة دفاع عن فكرة احياء الكتاب والسنة المقبورين. ولكن اراد الله إلا ان ينصر جيش مهدي الله رغم قلته وقلة عدده وعتاده. فقد انتصر على أبوالسعود في أبا الاولى في ١٢-٨-١٨٨١م الموافق ١٦رمضان ١٢٩٨هـ وليلة ١٧ منه، ثم على الصائل الجزار الشلالي باشا، ثم هيأ الله شابه اسمها رابحة بت عامر الكنانية وكانت تقيم مع اهلها بالقرب من فشودة. ولابد أن جزءا من أهلها كنانة كانوا في صحبة امامهم. فقررت أن تتحزم وتتلزم وتشق الطريق ليلاً لتنقل إلى الامام المهدي وصحبه خبر راشد بك ايمن الذي تحرك من فشودة بجيش عرمرم يستقصد هزيمة جيش الانصار في قدير. ومع ساعات الفجر الاولى راها الأنصار وهي تندفع نحوهم. فطلبوا منها الوقوف. قالت لهم أنا رابحة بت عامر وعايز اوصل كلامي الى ابفلج. وكان هذا من الالقاب التى أطلقها الأنصار على الامام المهدي حينها لصحبه. ارتفعت الأصوات فجاء الخليفه عبدالله بن السيد محمد فسالته أنت المهدي ابفلج. قال لها لا. ثم برز الامام المهدي وكانت صلاة الفجر قد اوشكت. فقال دعوا رابحة تصلني فهي صادقة. وبعد السماع لروايتها وفحواها بان الترك (بعبوا وهم في طريقهم اليكم فاستعدوا لهم). طلب الامام المهدي من اسرته إكرامها فقد قامت بعمل عظيم. وتم الاستعداد ووضع خطة محكمة ليباغت بها الأنصار جيش مدير فشودة . وبالفعل انتصروا عليه بضربة ساحقة ومن حيث لم يتوقع راشد بك. ولم تكن مع الانصار سوى بعض الرماح والسيوف والعصي. ويصف القدال احوال السودان بعد القضاء على حملة فشودة والشلالي بان الثورة تتجمع سحائبها داكنة في الافق ثم انفجرت الثورة في أنحاء البلاد. ولكن كانت كثافتها عالية في الجزيرة وكردفان. وهذه المناطق تعرفت على قائد الثورة عن قرب وتدرك أنه صادق في صلته بالله ورسوله ومع محبيه. وهكذا انفجرت
الاوضاع في ثورة شعبية متزامنة مع تحرك الجيش الى الابيض. وفي واقعة معركة تحرير الابيض المعروفة بمعركة الجمعة ١٨٨٢م استشهد شقيق المهدي الاصغر السيد عبدالله واستشهد معه محمد ابن شقيقه السيد حامد وكانا مخضبين بحنة عرسهما وقد سبقهما إلى الشهادة السيد حامد شقيق الامام المهدي نفسه في معركة الشلالي. وبعد خسارة هذه الجولة تم اتباع تكتيك الحصار . فحوصر الأبيض وبارا ثم تداعت قبائل شمال كردفان لمبايعة الامام المهدي فأرسل أمراء للبيعة وان يبقوا في مناطقهم لتحريرها. وكان هذا اجراء عبقرياً اذ حاصر المكي ود ابراهيم من الحمر فضلا عن زعماء الكواهلة وبني جرار وسيماوي ود امبده امير دارحامد اضافة إلى الحاج منوفلي من الجوامعة اكبر حامية في غرب بارا هي حامية (اسحف) فتم تحريرها فمهدت الطريق لتحرير ابو حراز ثم تحرير بارا في ٦-١-١٨٨٣م ثم الأبيض في ١٥ يناير ١٨٨٣م .
ومن الابيض قرر الامام المهدي الانتقال من الدفاع إلى الهجوم. وعين عليها حاكماً وقد اصبحت الابيض عاصمة الدولة السودانية التي كانت تتشكل بارادة الله ونصره. ولكن كان لتحرير الأبيض صدى في لندن وﻓﻲ باريس وفي الهند وفي الصين. لذلك كان رد فعل الحكومة البريطانية التي احتلت مصر في سبتمبر ١٨٨٢م ، استخدام الخديوي كوسيلة لمحاربة الدولة الإسلامية الوليدة في السودان. وقال المندوب السامي البريطانية للخديوي إن تمدد المهدية مهدّد لمصر ولابد من تجهيز جيش للقضاء على المهدي ومن معه. ومن المفارقات أن الامام المهدي الذي كان يسعى إلى دعم حركة عرابي كونت حملة عسكرية من بقايا جيش عرابي لمحاربته . وهو سلوك استعماري قديم باستخدام المسلمين ضد بعضهم البعض. فمن كان يسعى لإطلاق سراح أحمد عرابي وصحبه يصبح عدوا ينبغي الاجهاز عليه.
وفي كل الأحوال سارت الأمور إلى غايتها ومقاديرها. فكون الخديوي ومن خلفه المستعمر البريطاني جيشا بلغت قوته اربعة عشر الف مقاتل وأسند زمامه الى الجنرال الانجليزي وليام هكس ويعاونه سليمان نيازي باشا قائداً عسكرياً ، اضافة إلى اللواء علاء الدين باشا باعتباره الحكمدار العام للسودان بعد القضاء على جيش الانصار. ولاشك أن الله لا يخلف وعده بنصر عباده الصالحين فقد دب الخلاف والشقاق في الحملة منذ أن وطئت ارض الوطن. فقد اختلف سليمان نيازي باشا مع قائد الحملة وطلب هكس ابعاده او نقله وتم بالفعل ابعاده الى سواكن التي كانت لا تزال لم يصلها عثمان دقنه. وانشغل هكس بأمانيه ومكاسبه المادية فكتب الى زوجه في بريطانيا خطابا قال فيه ان الخديوي كان كريما معه ومنحه مبلغ عشرة آلاف جنيه ذهبي وهو مبلغ يعادل بقيمة اليوم اكثر من مليون جنيه إسترليني. وفي الخرطوم ابتلى الله الحملة بالاختلافات حول طرق انسب الطرق إلى الابيض. وتقرر أن تسلك الحملة الطريق إلى الدويم ومنها إلى الابيض.وشرع جيش هكس يسير في مربعات مدججة بالاسلحة والمدفعية والترهيب وارسال رسالة إلى جيش الانصار ان لا قبل لكم بمقاتلة جيش هكس. وكان الجيش الغازي بالفعل مدجج بالأسلحة والعتاد ويتكون عتاده من اربعة اليات مشاة قوامها الفين جندي وخمس بلوكات سواري من الباشبوزق واربعة مدافع كروب وعشرة مدافع جبلية وستة مدافع نورد فلوت وستة مدافع رشاشات متراليوز وبلغ عدد الحيوانات التي تحمل السلاح عشرة الاف . وعندما بلغ هكس الدويم يبدو انه لاحظ
القبائل على طول الطريق تهجر قراها فهي خالية من السكان، وتتخلص من الآبار بدفنها لكي لا يستفيد منها الغزاة.
ولكن هكس كان إنجليزيا شديد القسوة والغرور بقوته لدرجة القول إن السماء إذا سقطت رفعناها باسنتنا واذا الارض اهتزت ثبتناها بأقدامنا .
لم تكن لدى جيش هكس معلومات كافية عن جيش الامام المهدي ومهاراته ولم يكن يعرف ان او يؤمن بأن الله معهم وانهم عند تحرير الابيض توفر للأنصار ١٦٤٠٠ بندقية و١٣ مدفع و١٧ صاروخ و٥٠٠ مقاتل مدرب على الاسلحة العسكرية بانواعها المختلفة فضلاً ان الارادة والعزيمة والايمان الذي لا تزحزحه الرياح العواصف. وبعد توغل القوات الغازية في صحراء كردفان كان الامام محمد احمد المهدي يتابع مسيرتها وحجمها وعددها. وبنى خططه على معلومات وردت اليه من القبائل ومن العيون التي ارسلها ومنهم الأمير محمد عثمان ابو قرجة وعبد الحليم مساعد وهو جد محمد احمد محجوب من امه الحاجة فاطمة حفيدة الامير عبد الحليم ود مساعد ،وعامر الياس ام برير بغرض مناوشة الجيش الغازي ومتابعتها وكلما ظهر ضعف في مربع يتم ضربه ثم الانسحاب. ويصف القدال هذه الخطة بأنها من براعتها تماثل نفس ما اتبعه القائد الروماني فابيوس ضد حملة هانيبال الذي أسمى الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي ابنه هانيبال عليه ربما تيمناً وإعجاباً. ومن جهتي ارى ان الامام المهدي كان متأثرا في حركته وسكونه بالسيرة النبوية وبالتكتيك الذي اتبعه المسلمون في بدر ومعركة أحد وغيرها. ثم وزع الامام محمد آحمد المهدي مئات المنشورات على غصون الاشجار لاستهداف الروح المعنوية للجيش الغازي وعندما شارف شيكان كانت منهكاً معنوياً ومادياً.
في الجهة المقابلة كان الامام المهدي بعد مغادرته الابيض يرفع الروح المعنوية لاحبابه ويعيدهم بالنصر ويطلب من الذين راوا بشريات او سمعوا ملهمات ان ينقلوها اليه وكان من بين الأنصار الحفاظ والعباد والذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم. وكان البعض يتدرب على المبارزة وعلى ارسال الحربة او الكوكاب او حتى العصا ليحسن من ادائه ويسد الثغرة التي قد تقع عليه. ثم تم اطلاق اسلحة نارية لكي تتعود الخيل والجمال عليها. وفي الاثناء ظل مجلس الحرب يجتمع يومياً بعد صلاة الفجر ويراجع الخطة. وكانت تتكون من تكتيكات عسكرية اهمها دفع قوات هكس نحو شيكان وليس مدينة الأبيض لانه من الافضل لقواته ان تدخل في صدام مباشر وشامل يفقد الجيش الغازي الاستفادة من تفوقه الناري. وتقرر ان تم اندفاع الجيش الغازي نحو شيكان ان يتم حفر خندق تدخله بعض القوات التي تحمل البنادق حتى إذا تجاوز نصف عدد القوات منطقة الخندق يخرجون عليهم ويشتتوا صفوفهم ويكسروا مربعهم ويحدثون الربكة المطلوبة على ان يتزامن ذلك مع الصدام الأمامي للقوات الغازية على ان يكون الهجوم الأمامي من ثلاث جهات ميسرة القوات الغازية ووسطها ومن جهة اليمين. ويصف عصمت زلفو هذه العبقرية بأنها شاهد على الابداع العسكري في مزج الخيال والتخطيط بواقع التنفيذ والتطبيق.
وكان الامام المهدي بعد صلاة فجر الاثنين الخامس من نوفمبر ١٨٨٣م قد بشر اصحابه واحبابه بانتصارهم على عدوهم وقال لهم ان المعركة ستنتهي في دقائق معدودة وان من يحاول ربط شراك نعله فقد يفوته شرف المشاركة فيها. وطلب منهم أن من لا يملك سلاحاً ياخذ قشة من الزريبة لينال به فضل الله. وما هي إلا لحظات لم تتجاوز الساعه حسب بعض التقديرات حتى صدقت بشرى الامام المهدي. فقد انقضت الراية الزرقاء بقيادة الخليفه عبدالله وانقضت الراية الحمراء بقيادة النجومي والراية الخضراء بقيادة علي ولد حلو تلتحم كل من ثغرته فيتساقط الغزاة امام قوات هؤلاء القادة وتبرز قوات حمدان أبوعنجة فتسحق حملة البنادق والمدافع الذين أصيبوا بالرعب وفقدت أسلحتهم دورها ثم حاول هكس إعادة تنظيم صفوفه ولكن الفخاخ كانت في انتظاره من الجهات الاربع وكان لا يستطيع سماع صوت سوى الله اكبر ولله الحمد وان الانصار يبتغون النصر أو الشهادة بينما تتداعى صفوف العدو. وتورد روايات ان هكس عندما طلب من البروجي أن يتسلق التبلدية ليحدد له نقاط الضعف في جيش المهدي فرأى الجيش على امتداد البصر فأصبح ينفخ في البروجي بطريقة هستيريا ارعبت الجنود لذا ارداده هكس قتيلا واصبح هيكله العظمي معلقات بالشجرة ردحا من الزمن حتى سميت الشجرة باسمه وما زالت موجودة إلى يومنا هذا . وعندما يئس هكس من اعادة بناء مربعاته قرر أن يقوم بنفسه بالهجوم ولكنه كان أقرب إلى الإنتحار فقد لاحقه الأمير احمد محمد النعمان وكان من أمراء راية راية الأمير تمساح سيماوي امبده فطعنه طعنة قاتلة وكان إلى جانبه الأمير عوج الدرب جد بكري عديل كما صور هذه اللحظة سلاطين باشا وقد كان اسيرا وشاهداً عليها. ثم تم القضاء على اللواء علاء الدين وجميع القادة العسكريين سواء كانوا من الإنجليز أو المصريين وتم اسر مائتي جندي اغلبهم من المصريين. وفتحت شيكان الطريق على مصراعيه إلى تحرير الخرطوم. فقد توفرت للأنصار ذخائر لاسلحتهم التي استولوا عليها من حملة راشد والشلالي ومن محمد سعيد جراب الفول وكان شيكان آخر مسمار في نعش الاستعمار التوسعي الغربي في المنطقة.
وطارت الاخبار إلى لندن وذهل غلاديستون رئيس و زراء بريطانيا من ابتلاع ارض شيكان لجيش بهذا الحجم وذهل بنهاية هكس باشا ولكنه عاد إن الضابط وليام هكس دخل في مخاطره غير محسوبة ولامه على ما حدث. ولا زالت قصة شيكان تلهم ابناء السودان وتلهم المسلمين. وكان الامام الهادي طيب الله ثراه استصحب الازهري للاحتفال مع اهل كردفان بذكرى شيكان وأقيم نصبا تذكاريا للشهداء ولذكراهم العطرة فسلام عليهم مع الخالدين وعاشت بطولاتهم وتضحياتهم وجهادهم منارا ومسارا ملهما لامتنا وبلادنا وأحرار العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى