
الخرطوم : الهادي محمد الأمين
– لا أحد يستطيع أن يحدد علي وجه الدقة موقف الحكومة الانتقالية تجاه تيارات العمل الاسلامي المختلفة الناشطة في المشهد الدعوي السوداني نظراً لعدم وجود رؤية او تصورات واضحة – رسمية – في كيفية التعامل مع هذه التنظيمات سواءً التقليدية ممثلة في طوائف الطرق الصوفية باختلاف طبقاتها وسجاداتها وبيوتاتها الدينية او المنظمات التي تقف في الضفة الأخري ذات انتماءات سلفية او مجموعات مرتبطة بالاسلام الحركي او كيانات إخوانية فانعدام الرؤية يعود لعدم وجود التنظيمات الإسلامية ضمن أولويات واجندات الحكومة الانتقالية ولا تشكل همّاً يندرج في جدول أعمالها او ربما بسبب علاقاتها السابقة مع النظام البائد أو بسبب طرح الحكومة الانتقالية وتبنيها لسياسات مغايرة لما كان سائداً في الفترة السابقة إبّان حكم الإنقاذ الأمر الذي جعل شكل العلاقة بين الحكومة الانتقالية والقوي الدعوية الحاضرة في المشهد الديني مضطرباً تسوده الضبابية وعدم الوضوح وفي المقابل لا توجد سياسة واضحة للتيارات الدينية في كيفية إدارة تعاملها مع الحكومة الانتقالية عدا المجموعات التي اصطفت تحت مظلة “تيار نصرة الشريعة” وأعلنت بالصوت العالي وبصورة صريحة نيتها إسقاط الحكومة (الإسقاط الثالث) بل وعدم الإعتراف بها ابتداء وتحريض الشق العسكري للإنقضاض علي السلطة وإزاحة المكون المدني المرتبط بقوي الحرية والتغيير خاصة وان هذه القوي لا زالت تمسك وتحتفظ بخطوط وحبال سرية مع الشق العسكري ورغم مرور أكثر من عام علي تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي إلّا ان العلاقة لم تتبلور في شكل خطة او خارطة طريق تحكم طرفي العلاقة سواء في الوقت الراهن او المستقبل القريب لكن بدا واضحاً ومن خلال الوقائع ان علاقة تيارات الاسلام السياسي الحركي مع الحكومة الانتقالية يحكمها العداء المتبادل .. فهل تنبني وتتهندس العلاقة علي المهادنة والموادعة عبر إبرام تسوية كمسار واتجاهات جديدة تؤسس اواقع جديد ام علي الصدام والمواجهة في حالة تشبه النموذج المصري وبقية البلدان التي تشهد حالات تجاذب واستقطاب ديني بين السلطة الحاكمة والكيانات الدينية التي تقف في خندق المعارضة ..
—————
(1)
– بعد سقوط البشير عبر الثورة الشعبية في ديسمبر 2019 سيطر علي الميدان لاعبان شكلا ضلعي المعادلة في الساحة السودانية فظهرت مكونات وكُتل قوي الحرية والتغيير كطرف اول في المعادلة فيما ظهر الجيش كطرف ثاني في ذات الوقت الذي اختفي فيه مناصرو النظام البائد الذين دخلوا في السرداب – ولم يظهروا علي سطح الأحداث بعد خروجهم من اللعبة او انحنوا للعاصفة ريثما يتبين الخيط الابيض من الخيط الأسود من الفجر – إلا بعد بروز الصراعات الحادة بين جانبي المعادلة (المكون المدني + العسكري) خاصة بعد وقوع مجزرة فض اعتصام القيادة العامة التي ادي لتعكير صفو العلاقة وتوترها لدرجة وصولها للقطيعة ليظهر ضلع ثالث مستفيداً من حالة الجفوة والتناقضات والتباينات التي برزت داخل طرفي النزاع “الحرية والتغيير” من جهة و “العسكر” من جهة ثانية مشكلاً احد ملامح المرحلة الجديدة ليحجز لنفسه وضعية مريحة عبر اصطفاف وتحالف مع تنظيمات موالية له – شراكات ما بعد الثورة – إلا أن الشراكة ظهرت كتحالف ديني بأجندة النظام البائد تحت شعار الحفاظ علي الشريعة ومن بيت مكوناته (حركة الاصلاح الآن – الحركة الاسلامية – منبر السلام العادل – تيار الأمة الواحدة الذي تحول لحزب دولة القانون – المنظومات السرورية – الحراك الشعبي المتحد – الاتحاد السوداني للعلماء والدعاة – الرابطة الشرعية والأخوان المسلمون) لمناهضة سياسات الحكومة عبر عدة محاور :
– التحشيد وقيادة الشارع والتعبئة العامة واستنفار العضوية للتظاهر والاحتجاج وتسيير المواكب الجماهيرية تحت ذرائع حماية الشريعة ومحاربة العلمانيين وقوي اليسار.
– الخطاب التحريضي في المساجد خاصة خطب الجمعة في عدد من المنابر مثل مجمع خاتم المرسلين بحي الدوحة بجبرة الذي يتقدم فيه للخطابة والامامة عبد الحي يوسف والمجمع الاسلامي بالجريف غرب عبر خطيبه محمد عبد الكريم ومسجد السلام بالطائف الذي يقود فيه خط الانتقاد وحملات الهجوم ضد الحكومة مهران ماهر عثمان ومسجد الجريف الذي يؤمه محمد علي الجزولي الذي كان يتنقل بخطابه داخل مسجد جامعة الخرطوم ومجمع الإمام مسلم بحي الفيحاء بالحاج يوسف بشرق النيل بقيادة خطيبه مدثر احمد اسماعيل مؤسس الاتحاد السوداني للعلماء والدعاة ثم تنظيم التحركات في الاحياء عقب اداء صلاة الجمعة والخروج بالمصلين للشوارع والطرقات بغرض الهتاف ضد الحكومة وسياساتها.
– الاستفادة من وسائل الاعلام خاصة اذاعة وقناة طيبة الفضائية قبل اجراءات الحظر والمصادرة هذا عطفا علي توظيف وسائل التواصل الاجتماعي والتدوين الالكتروني لتشكيل الرأي العام وقيادة حملات مضادة لقوي الحرية والتغيير ومثلت خطورة تيار نصرة الشريعة بأنه أصبح ورقة ضغط رابحة وكرت مناورة يتم استخدامها من جانب المكون العسكري ضد حلفائه بقوي الحرية والتغيير بهدف الابتزاز وتحقيق اكبر قدر من المكاسب في ذلك الوقت وهي ذات السياسات التي كان يمارسها النظام البائد ضد خصومه في القوي المعارضة بشقيها المدني السلمي والاجنحة العسكرية المسلحة خاصة القوي اليسارية والجبهة الثورية وقد اظهر هذا التيار قوة وفاعلية عبر ابتدار حراك جماهيري واسع تمظهر في عقد المؤتمرات الصحفية والمخاطبات الجماهيرية وبناء شبكة علاقات واسعة علي المستوي الداخلي وتحول لاصطفاف عقائدي عبّر عن نفسه في عدد من المواقع والمواقف مثل تسيير في مواكب الزحف الأخضر بالخرطوم وعدد من الولايات مثل الجزيرة وغرب كردفان وغيرها من المناطق وتحول لمركز ازعاج ولم يتم السيطرة عليه إلا عبر الاجراءات الامنية والملاحقات والاعتقالات التي طالت عددا من القيادات والرموز وايداعها السجون لتكون نزيلة المحابس وتطورت العلاقة بين تنظيمات العمل الاسلامي الموالية للمؤتمر الوطني التي تخندقت في جبهة عريضة اطلق عليها “تيار نصرة الشريعة” مشكلاً منظومة مناهضة للحكم الانتقالي رفعت أولاً شعار “المعارضة المساندة” إلي الدعوة لإسقاط الحكومة الانتقالية خاصة بعد تأزم العلاقة ووصولها لمرحلة متأخرة بعد إجازة قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو وبداية تنفيذ قانون إزالة التمكين واتخاذ اجراءات حظر المنظمات المحسوبة علي التيار السروري خاصة منظمة المشكاة وذي النورين والمنتدي الاسلامي ثم إيقاف بث اذاعة وقناة طيبة الفضائية ومصادرة ممتلكاتها وحل جمعية القرآن الكريم ومنظمة الدعوة الاسلامية وعدد من الواجهات المرتبطة بالتيار السروري والحركة الاسلامية ثم خروج قيادات بارزة في مقدمتها عصام البشير وعبد الحي يوسف ومحمد عبد الكريم واستقرارهم بتركيا لتكون نقطة او منصة انطلاقة جديدة للمعارضة بعد اتاحة الفرصة لقناة طيبة الفضائية لاستئناف بث برامجها من جديد منطلقة من استانبول مما يعني خلق ظهير وسند اقليمي جديد تمثل في وجود حواضن او محطات إيواء بكل من تركيا وقطر ثم ظهور هؤلاء الشيوخ ومعهم محمد الحسن الددو الموريتاني في أعمال القمة الاسلامية المصغرة التي انعقدت قبل عام بالعاصمة الماليزية كوالالمبور ثم بروزهم كقيادات في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين المرتبط بالتنظيم العالمي للاخوان المسلمين ورابطة علماء المسلمين متيحاً هذا الحراك والتحول فرص الانتقال من مرحلة (التفكير الذاتي) إلي مرحلة (التفكير الجماعي) عبر العمل التنسيقي المشترك بعد الاستفاقة من الصدمة التي حدثت في أعقاب سقوط البشير مع سرعة تحويل الهزيمة إلي قوة دفع ذاتي الأمر الذي ولّد وخلق تحالفات وشراكات جديدة مرنة بإيقاع متسارع ملأ كثيراً من الفراغات في الساحة السودانية ثم مرحلة الانتقال من خندق (الدفاع) إلي خط (الهجوم) ومن معركة (البقاء والوجود والحضور) إلي معركة (فرض النفوذ) في ظل دعوات ونداءات – تسجيلات صوتية – ظل يطلقها علي كرتي من تحت الأرض لتهيئة قواعده للانخراط في مناخ وحالات الإحماء والتسخين التي انتهت بإفطار ساحة الحرية وتجميع الكوادر في مراسم جنازة الأمين العام للحركة الاسلامية الزبير أحمد الحسن وحشد العضوية في مناسبة التأبين التي كانت عبارة عن مهرجان سياسي له ما بعده .
(2)
لقد أوجدت بعض سياسات الحكومة الانتقالية مبررات قوية قادت لتوسيع دوائر التحالف لتستوعب لاحقاً الطرق الصوفية وواجهاتها كالمجلس الأعلي للتصوف الذي يقوده الخليفة الطيب الجد والخليفة عبد الوهاب الكباشي بالمجمع الصوفي العام الذي يقف عليه المرشد العام للطريقة السمانية الطيبية الشيخ محمد حسن الشيخ الفاتح قريب الله لتتلاقي مع رجالات الادارة الاهلية الناقمة علي الحكومة الانتقالية وابرز وجوهها ناظر عموم الهدندوة محمد الامين سيد تِرك ثم ظهور الجماعات السلفية مثل أنصار السنة “الإصلاح” بقيادة عبد الكريم محمد عبد الكريم ومحمد الأمين اسماعيل وأنصار السنة “المركز العام” برئاسة اسماعيل عثمان وحركة الاخوان المسلمين تحت قيادة مراقبها العام عوض الله حسن سيد أحمد وهيئة شئون الأنصار مع مجمع الفقه الاسلامي لتشكل جبهة عريضة خاضت معركة تغيير المناهج التي تبناها ووقف عليها مدير المركز القومي للمناهج عمر القراي ووزير التربية والتعليم المُقال محمد الأمين التوم لتنتهي – بعد صراعات دينية محمومة وساخنة – باستقالة وزير التربية والتعليم محمد الأمين التوم ومدير المركز القومي للمناهج عمر القراي رضوخاً للضغوط الكثيفة والحملات المنظمة التي استمرت ضد “طرح العلمانية وملف فصل الدين عن الدولة” ثم “سيداو” وتعديل “قانون الاحوال الشخصية للمسلمين” ودعوات النسوية او “الفمينسيت” ثم “التطبيع مع إسرائيل” مما يعني فاعلية هذه المكونات وقدرتها علي المناورة وتحريك الشارع وتوظيف الواقع لصالح أجندتها ومشروعها هذا علاوة علي انتقادات وهجوم حزب التحرير الاسلامي بقيادة ابراهيم عثمان أبو خليل ومن اللافت للأنظار ان هذه التيارات ورغم تباينها وتناقضاتها لكنها استطاعت ترتيب اوضاعها وصفوفها لتعمل في تناغم وانسجام في مواجهة قوي الحرية والتغيير التي كانت تعاني من حالات التشظي والتصدعات والتنازع فيما بينها رغم جلوسها في كراسي الحكم والسلطة وبروز تنظيمات العمل الإسلامي في ثوبها الجديد مما يعني أن الحركات الأصولية والراديكالية والتجمعات العقائدية تمهد أو تعد نفسها للعب دور جديد أو تحاول رسم خارطة طريق ووضع بصمة جديدة بالعودة إلي جو المباراة وقيادة الحملات المنظمة عالية التنسيق بصورة ممرحلة لترتفع درجات الهجوم الحاد علي الحكومة الانتقالية حتي من الدعاة السلفيين الرافضين للتمرد والخروج علي سلطان الدولة امثال محمد مصطفي عبد القادر ومزمل فقيري وأبو بكر آداب ومختار بدري ومجموعة “التيار السوداني” بتوجيه خطابهم الدعوي تجاه القوي اليسارية والحزب الشيوعي والجمهوري والبعث مع وجود اتصالات بين السلفيين والصوفية تطورت الي لقاءات وزيارات للخليفة الطيب الجد بمسيده بأم ضواً بان وزيارات للخليفة عبد الوهاب الكباشي وثالثة الي الشيخ الفاتح عبد الرحيم البرعي بمنطقة الزريبة بشمال كردفان وفي مجمعه بحي الراقي جنوبي الخرطوم لتصل هذه التيارات ان خطاب وسياسة الحكومة “مستفزة” يتم طرحها بصورة “صارخة” وتعمل علي تأجيج الشعور الديني وتهييج قواعد الجماعات الدينية الأمر الذي قد يخلق مضاعفات تلقي بظلال وذيول سالبة علي مجمل الأوضاع بالبلاد قد تؤدي الي نمو وصعود التطرف الديني والارهاب الذي يشكل احد ابرز التحديات والمخاطر علي العبور والانتقال الآمن بمطلوباته واستحقاقاته المعروفة وبالتالي إما ان يتم التوافق علي إبرام تسوية وانجاز صفقة يتم بموجبها معالجة حالة التأزم بين تيارات العمل الدعوي الناشطة في الساحة السودانية وخفض حدة الاحتقانات والتوترات وفق واقع جديد يستوعب كل هذه المكونات بمختلف اتجاهاتها وأدني درجات ذلك فتح أبواب الحوار لتحييد هذه المجموعات او استمرارية سياسات الإقصاء والاستئصال والتهميش التي قد تدفع الأوضاع علي نحو يقود البلاد الي مزيد من حالات التجاذب والاستقطاب الحاد والانزلاق في خندق الصراعات والفتن الدينية والنزاعات الطائفية التي لن تبقي ولا تذر .